¤ الســـؤال:
أريد بعض التوضيح لإجابة أحد الأسئلة التي تحدثت عن أولئك الذين تحدثوا في المهد، لقد كانت إجابتكم كالتالي: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ، قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ! قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ، إقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةُ صِغَارٍ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلام، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ. أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/309، والطبراني 12280، وابن حبان 2903، والحاكم.
سؤالي هو:
ذكرتم أن عباس قال.. وشاهد يوسف، فأين صاحب قصة الأخدود؟ ألا يصير العدد خمسة إن نحن إعتبرنا صاحب قصة الأخدود؟
* الجـــواب:
الحمد لله
=أولا:
الذي نراه راجحا في أخبار الذين تكلموا في المهد يتمثل في الحديث الذي رواه البخاري 3436 ومسلم 2550 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إِلَّا ثَلاَثَةٌ: عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، كَانَ يُصَلِّي، جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ المُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الغُلاَمَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لاَ إِلَّا مِنْ طِينٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ، ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الأَمَةُ يَقُولُونَ: سَرَقْتِ، زَنَيْتِ، وَلَمْ تَفْعَلْ».
=ثانيا:
وأما قصة ابن ماشطة ابنة فرعون فقد بينا في الفتوى السابقة تخريج حديث ابن عباس الوارد في شأنها، ودرسنا إسناده ورواته، وقد توصلنا في خلاصتها إلى أن الحديث مشكوك في ثبوته، فقد ورد من رواية حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، وعطاء إختلط حديثه آخر عمره فوقع في أوهام كثيرة، وحماد سمع منه قبل الإختلاط وبعده كما قال النقاد من المحدثين.
ولكن ذلك لا يعني الجزم بعدم ثبوت الرواية، فقد تكون مما حفظ عطاء، أو مما رواه حماد بن سلمة عنه قبل الإختلاط، ولهذا صحح الحديث جماعة من العلماء، خاصة وأنه لا يشتمل على أمر منكر أو مستغرب، إنما فيه حكاية من أخبار بني إسرائيل، ورد نحوها في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة، ومثل هذه الأخبار لا حرج في روايتها وتحديث الناس بها لأخذ العظة والعبرة، أو لتوضيح بعض مقاطع القصص في القرآن الكريم.
لكن مع ضرورة الإنتباه إلى أن الخطأ في بعض ألفاظ الرواية وكلماتها وارد بسبب إحتمال الضعف الإسنادي الذي سبق شرحه، وهذا أمر مهم يجب أن يتنبه له الباحثون والمعتنون بالثقافة الإسلامية، أن لا يطيلوا الوقوف كثيرا عند بعض الكلمات الواردة في الروايات المتكلم في أسانيدها، أو التي في أسانيدها بعض النظر.
وبهذا يتبين للسائل أن الضعف من جهة الإسناد يجعلنا نتردد في ألفاظ الحديث ودقة حكايته، فإذا ورد وصف الطفل في قصة ماشطة ابنة فرعون بأنه رضيع، فهذه اللفظة مشكلة مع الحديث الثابت الصحيح عن أبي هريرة: أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، وما في الصحيح أولى وأثبت.
وعلى فرض صحة الحديث: فالجملة الأخيرة منه من كلام ابن عباس رضي الله عنهما، وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، يقول فيها ابن عباس: تكلم أربعة صغار: عيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحب جريج، وشاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون.
ومعلوم أن الصحابي إذا قال قولا من عنده، ولم ينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخطئ ويصيب، ويفوته بعض العلم الذي لم يبلغه أو نسيه أو أخطأ في فهمه، فلا يقال حينئذ إن ثمة تعارضا أو نقصا في السنة النبوية، فالكلام المرفوع المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وكلام الصحابة من قولهم أو فعلهم أو اجتهاد رأيهم شيء آخر.
=ثالثا:
وأما قصة أصحاب الأخدود فقد وردت في حديث صهيب الرومي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث طويل، قال فيه: «فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ، فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: يَا أُمَّهْ، اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ»
رواه الإمام أحمد في المسند 39/354 قال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب.
وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه 3005 قال: حدثنا هداب بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة بالإسناد السابق، ولكن قال فيه: «حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها» ولم يقل إنه رضيع، الأمر الذي إقتضى بالإمام النووي رحمه الله أن يقول: ذلك الصبي لم يكن في المهد، بل كان أكبر من صاحب المهد وإن كان صغيرا» انتهى من شرح مسلم 16/106.
هذا فضلا عن أن حماد بن سلمة قد خولف أيضا، فرواه معمر عن ثابت بسياق ليس صريحا في رفعه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. كما في -مصنف عبد الرزاق 5/420، و سنن الترمذي 3340، و مسند البزار 6/18، ومعجم الطبراني 8/41.
لذلك قال الحافظ المزي رحمه الله: يحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى ...انتهى من تفسير القرآن العظيم 8/389.
هذا، وقد ذكر العلماء أطفالا آخرين تكلموا في المهد، ولكن أخبارهم وردت في آثار موقوفة أو مقطوعة، أو أخبار مرفوعة ضعيفة، لم نشأ التوسع بذكرها في هذا المقام، كي لا يطول الأمر على القارئ، ويمكن مراجعتها في -شرح الشفا 1/233، فتح الباري 6/480.
فالخلاصة: أن حديث ابن عباس الوارد في السؤال ضعيف لا يصح، فضلا عن أن آخر جملة منه -وهي محل الإشكال- وردت من كلام ابن عباس موقوفا عليه، وليست مرفوعة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
والصواب الذي نميل إليه في هذا المقام: ما ثبت في الحديث الصحيح الصريح السابق عن أبي هريرة، الذي رواه الشيخان ولا شك في رفعه، أن الذين تكلموا في المهد ثلاثة فقط، وليس منهم الطفل في قصة أصحاب الأخدود لعدم صراحة روايته، والتردد في رفعها، وليس منهم شاهد يوسف أيضا إذ لم يرد في خبر مرفوع صحيح، كما ليس منهم ابن ماشطة ابنة فرعون، لضعف حديث ابن عباس الوارد فيه كما سبق شرحه في بداية هذا الجواب.
والله أعلم.
المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب.